شركة نقل تونس.. أسطول مهترئ وخدمات لا تلبي الحد الأدنى والمواطن أبرز المتضررين

في مشهد يومي متكرر، وبعد نحو ساعة من الانتظار تقف نهى متململة في محطة مترو الدندان القريبة من بيتها، وهي تنظر إلى دقات ساعتها البطيئة، وتسترجع تفاصيل رحلتها اليومية من وإلى علمها بـ “مونبليزير” التي تقع على بعد 11 محطة فقط، لكنها تقضي ساعات يوميا للوصول إلى مكتبها، في مسافة لا تحتاج في العادة أكثر من 15 دقيقة بالسيارة.

أخيرا يظهر المترو آتٍ من بعيد، فتبدو ملامح القلق والترقب على وجه نهى، يا ترى هل ستتمكن من الصعود، أم هناك المزيد من الانتظار والترقب.. تحاول أن تحشر جسدها بين كتل الأجساد البشرية المتصارعة على الرصيف للظفر بمقعد داخل العربة.

تنظر نهى مرة أخرى إلى ساعة اليد.. تبقى فقط نحو 10 دقائق على بدء الدوام، هذا بالنسبة لها يعني وصلة جديدة من التوبيخ بسبب تأخيرها اليومي المتكرر.. وهي التي فقدت عملها منذ 3 أشهر بسبب مشكلة المواصلات.

 

إرهاق لا يمكن إنكاره!

تعاظمت في السنوات الأخيرة معاناة التونسيين مع النقل والتنقل، حيث تحولت تنقلاتهم اليومية العادية إلى معضلة تؤرقهم بسبب الاكتظاظ وغياب العدد الكافي لوسائل النقل وغياب الأمن والتأمين وغيرها من الظواهر التي باتت تزيد من معاناة المواطنين في العاصمة.

تعتبر شركة نقل تونس المسؤولة عن قطاع النقل العمومي الحضري، حيث تضطلع بمهمة نقل المسافرين داخل العاصمة وفي اتجاه ضواحيها، وذلك عبر عدة وسائل نقل وهي المترو الخفيف والحافلة والقطار، ويعد المترو وسيلة نقل أساسية في منظومة النقل العمومي في تونس، حيث يؤمن نقل المواطنين باتجاه كل من ولاية بن عروس وأريانة وحي التضامن ومنوبة وابن خلدون والمروج.

أما بالنسبة للحافلات فتضطلع هي الأخرى بدور مهم في النقل داخل العاصمة وفي اتجاه الضواحي عبر أربع محطات كبرى وهي محطة حديقة ثامر ومحطة علي البلهوان ومحطة برشلونة ومحطة تونس البحرية.

في العقدين الأخيرين تراجعت بشكل كبير خدمات النقل العمومي، إذلم تعد تلبى الحد الأدنى من الراحة والأمن والاستمرارية، وذلك نظرا للصعوبات الجمة التي باتت تعيشها شركة نقل تونس على مستويات مالية وهيكلية وعلى مستوى تعداد الأسطول.

 

شركة نقل تونس في أرقام

بلغ عدد المسافرينعبر شركة نقل تونس سنة 2022 حوالي 128245 ألف مسافر خالصي معلوم النقل وذلك حسب معلومات تحصلنا عليها عبر طلب “نفاذ إلى المعلومة “من شركة نقل تونس والتي أشارت إلى أنها معطيات غير نهائية إلى حين الموافقة عليها من طرف مجلس إدارة الشركة. هذه الأرقام إذا ما تمت مقارنتها مع أرقام رسمية أخرى سبق نشرها في التقارير السنوية للشركة فإنها ستعكس الانهيار الكبير الذي شهده عددالذين استخدموا وسائل نقل شركة نقل تونس،خاصة سنة 2020 التي تراجع فيها عدد حرفاء الشركة إلى 119253 ألف حريف.

ومن خلال هذا الرسم البياني، نوضح أكثر التراجع الكبير الذي شهده عدد ركاب وسائل نقل الشركة منذ سنة 2014 إلى حدود سنة 2022.

بدوره شهد عدد السفرات التي تؤمنها شركة نقل تونس ترجعا كبيرا في السنوات الأخيرة مقارنة بعام 2014، وكان عام 2020 الأسوأ من حيث عدد الرحلات، الذي شهد 878 ألف رحلة فقط، ومن خلال هذا الرسم البياني نوضح التطور السلبي لعدد الرحلات المقدمة من قبل شركة نقل تونس.

نقل تونس.. قمامة وزحام وغياب الإنارة والتأمين

عند مرورك قرب أي محطة للنقل العمومي تكتشف لوحدك الوضعية الكارثية التي يعيشها قطاع النقل العمومي، وذلك من خلال حالة المحطات وما يلاحظ من زحام وانتشار القمامة وغياب الإنارة ووسائل التأمين.

قمنا بجولة في عدد من محطات الحافلات والميترو بالعاصمة، وتحدثنا مع عدد من المواطنين حول أوضاع النقل العمومي وأبرز الإشكاليات التي تواجههم عند استعمالهم للحافلات أو الميترو، وكانت مجمل تخوفاتهم تتمحور حول انتظام الرحلات والأمن والراحة.

ورغم هذه الشكاوى، تطل شركة نقل تونس في كل مرة ببيان تؤكد فيه استعداد أسطولها لتأمين تنقلات المواطنين في تلك المناسبة.

 

وعلى سبيل الذكر، أصدرت شركة نقل تونس سنة 2017 بمناسبة العودة المدرسية بياناأكدت فيه جاهزية أسطولها بنسبة 77%، وفي ذات المناسبة سنة 2019 أصدرت الشركة بيانا آخر أكدت فيه جاهزية أسطولها بنسبة 60%.

بلاغات الطمأنة هذه رغم كونها عامة وغير واضحة ولا تتطابق مع الواقع في محطات الانتظار، فإن المدقق فيها يلاحظ إقرار الشركة بالتراجع السنوي الكبير في تعداد الأسطول ونسبة جاهزيته ومدى قدرته على تلبية حاجيات تنقل التونسيين.

 

أسطول لا يلبى الحد الأدنى من شروط السلامة

ثريا التباسي نائبة رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك، كشفت لنا جانبا من معاناة المواطن التونسي مع معضلة النقل، فلا عربات مترو متوفرة ولا حافلات تأتي في مواعيدها، معتبرة أن هذه الأوضاع تؤثر بشكل كبير على حياة المواطنين كما تسبب لهم اضطرابا في المواعيد وتأخرا عن عملهم، إلى جانب ما تسببه لهم من إرهاق بدني وذهني.

 

“التباسي” أوضحت أيضا أن سلط الإشراف على علم بهذه المعضلات، إذا أن المنظمة ترفع هذه الصعوبات وشكاوى المواطنين والحالة الكارثية لقطاع النقل العمومي والذي أصبح غير قادر على تلبية احتياجات التونسيين، إلى سلط الإشراف عند مشاركتهم في اللجان ومجالس الإدارة الخاصة بالنقل.

واعتبرت نائبة رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك، في تصريح خاص أن الأسطول المتجول اليوم لا يلبي أدنى معايير الجودة والسلامة وهو ما يفسر كثرة الحوادث، التي كان آخرها وفاة طالب نتيجة سقوطه من عربة مترو تسير بأبواب مفتوحة.

 

معاناة في الاتجاهين وفي كل الأوقات!

“الثلث الأخير من يومي يكاد أن ينتهي، لقد كنت من المحظوظين الذين مكنتهم بنيتهم الجسدية من مقاومة الزحام والصعود إلى “حكة السردين” كما نسميها نحن ركاب المترو. هذه العربات أصبحت تصدر ضجيجا بشكل لا يصدق بسبب غياب الصيانة، ذلك إلى جانب أصوات الاستغاثة وحالات السرقة التي أصبحنا نشاهدها بشكل يومي”.. هكذا حدثنا خليل الذي يركب المترو 12 مرة على الأقل أسبوعيا للوصول إلى عمله من مدينة أريانة إلى مدينة الزهراء.

ويصف لنا خليل أيضا معاناة عودته من العمل، فبالإضافة إلى الضجيج، يشير محدثنا إلى أصوت أجهزة الإنذار التي تعمل دون سبب، أضف إلى ذلك غياب التهوية وأجهزة التكييف خاصة مع الحرارة المرتفعة التي تنبعث من داخل العربة، والروائح الكريهة والغبار الذي يسبب الاختناق.

ورغم انتهاء دوامه على الساعة الخامسة مساء، يحكي خليل بأنه يضطر أحيانا إلى الانتظار حتى الساعة الثامنة ليلا أو أكثر بسبب التأخير والزحام، مشيرا في الآن ذاته إلى غياب مظاهر التأمين داخل المحطات خاصة مع حلول الظلام وعدم وجود الإنارةالكافية.

 

مشاريع واهية لم ترى النور!

تواتر على وزارة النقل منذ الثورة العديد من الوزراء، كذلك شركة نقل تونس ترأسها عدة مديرين عامين، ومع كل تنصيب جديد يتم الترويج لبرامج إصلاحية لتطوير شركة نقل تونس وإخراجها من أزمتها المالية وإيجاد حل لإشكالياتها الهيكلية.

سنة 2016 تزامنا مع العودة المدرسية، تحدث وزير النقل حينها أنيس غديرة في مداخلةلهعبرراديوجوهرةأفأم عن توفير 750 حافلة جديدة بمناسبة العودة المدرسية للسنة الدراسية 2016 – 2017. كما وأكد الوزير في مداخلة أخرى عبر إذاعةموزاييكأفأم أنه تم إعداد برنامج لاقتناء 1136 حافلة جديدة تنضاف إلى أسطول متكون من 2900 حافلة، حسب تعبيره، حتى يعود أسطول شركة نقل تونس إلى تعداده السابق والمكون من 4000 حافلة سنة 2010.

أما في 12 أكتوبر2017 فقد أصدرت شركة نقل تونس بياناأعلنت فيه عن صفقة اقتناء عدد 494 حافلة جديدة على امتداد سنتي 2018 – 2019.

بدروه أكد الرئيس المدير العام لشركة نقل تونس السابق معز سالم خلال حضورهبراديوإكسبراسأفأم12 ديسمبر 2020 على أنه سيتم اقتناء 894 حافلة جديدة خلال ما أسماه بالمخطط الخماسي 2021 – 2025 والذي ستكون أول دفعة من هذا المخطط خلال سنة 2022، ذلك إلى جانب تدعيم شبكة قطارات TGM بعدد 18 عربة جديدة.

في ذات السياق، وفي سبتمبر 2022 أصدرت شركة نقل تونسبياناجديدة تؤكد فيه جاهزية أسطولها لتأمين العودة المدرسية والجامعية وتؤكد أن أسطولها مكون من 490 حافلة و74 عربة ميترو و10 قطارات.

هذه الأرقام تم التشكيك فيها من قبل الجامعة العامة للنقل التي أصدرت بتاريخ 05 سبتمبر 2022 بيانااستغربت فيه مما اعتبرته مغالطة من الإدارة العامة لشركة نقل تونس بخصوص حقيقة أسطول النقل العمومي وتضليل بشأن قدرة الشركة على تأمين العودة المدرسية والجامعية، محذرة من عجز شركة نقل تونس على تأمين تنقلات المواطنين والطلبة.

هذه المشاريع والصفقات التي أعلن عنها للرأي العام، لا تتطابق مع الواقع الحال، وفي هذا السياق اعتبرت نائبة رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك ثريا التباسي أن استراتيجية نقل الطلبة لوحدها كافية لكشف الفرق بين ما تعلنه شركة نقل تونس وبين ما هي قادرة على توفيره، قائلة: “في كثير الحالات لا توجد سوى حافلة وحيدة مخصصة لنقل الطلبة صباحا وأخرى مخصصة لإعادتهم مساء، وهذا يعني أن بعض الطلاب مضطرون للانتظار ستة ساعات من أجل حافلة تعود به إلى المنزل”.

أزمة مالية وهيكلية

أصدرت وزارة النقل يوم 15 فبراير 2023 بلاغامطولا تحدثت فيه عن الوضعية المالية والهيكلية الصعبة التي تعيشها شركة نقل تونس التي بلغ حجم ديونها 1880 مليون دينار سنة 2022، ما جعلها عاجزة عن الإيفاء بتعهداتها تجاه المزودين العموميين.

أما عن وضعية الأسطول فقد أشارت الوزارة في ذات البلاغ إلى أن التأخر في إنجاز البرامج السنوية لتعويض الأسطول أدى إلى تراكم عدد الحافلات المستوفاة لمعايير السير، كما أدى ذلك إلى اهتراء الحافلات الجديدة بسبب الاستغلال المكثف.

بدوره اعترف الرئيس المدير العام لشركة النقل تونس عبد الرؤوف الصالح خلال حضورهبرنامجتونسالاقتصادية الذي تبثه القناة الوطنية الأولى بلجوء الشركة استعمال عربات لا تستجيب لمعايير الاستخدام وذلك في محاولة لتلبية احتياجات المواطنين.

 وقال “الصالح” إن شركة نقل تونس لديها 460 حافلة فقط، كما اعتبر أن النقل الحضري في العاصمة في حاجة إلى وجود 100 عربة مترو على الأقل لتلبية احتياجات ستة خطوط مترو، في حين أن الشركة تعمل حاليا بـ 60 عربة فقط، وتابع بأن الشركة في حاجة أيضا إلى 11 عربة لتلبية احتياجات خط تونس البحرية TGM لكن الآن لدينا 5 عربات فقط.

واعتبر “الصالح” أن هذا النقص يؤدي إلى ظروف نقل وتنقل غير ملائمة ولا تستجيب لشروط الجودة والسلامة، كما يتسبب في تهالك بقية الأسطول بسبب الاستعمال المكثف بما يؤدي بالضرورة إلى التأثير على جودة الخدمات المقدمة وانتظام وتيرة الخطوط والنقل.

 

في سياق عملنا على هذا الملف، قمنا بالتواصل مع شركة نقل تونس من أجل لقاء صحفي للإجابة عن جملة من الأسئلة تتعلق بمصير المشاريع السابقة التي تم الإعلان عنها لكننا لم نجد تفاعلا إيجابيا من الشركة، الأمر الذي دفعنا إلى إرسال مطلب أول في النفاذ إلى المعلومة طبقا للقانون الأساسي رقم 22 لسنة 2016 المتعلق بحق النفاذ إلى المعلومة ثم مطلب ثانٍ بتاريخ 04 مايو 2023، تم تجاهله أيضا.

وإثر رفع عريضة دعوى أمام هيئة النفاذ إلى المعلومة ضد شركة نقل تونس، تحصلنا على رد جزئي على بعض أسئلتنا. وفي سؤالنا عن مشروع مصير المخطط الخماسي 2021 – 2025 قالت الشركة إنه تم تأجيل مشروع اقتناء 718 حافلة جديدة إلى سنوات 2024 و2025 و2026.

أما بخصوص مشروع إضافة 750 حافلة الذي أعلن عنه وزير النقل السابق أنيس غديرة تزامنا مع العودة المدرسية والجامعية سنة 2016، فجاء رد الشركة كما يلي: “بالنسبة للصفقة عدد 16/193 المتعلّقة باقتناء 494 حافلة من المزوّد ستكار تم فسخ العقد جراء عدم التزام المزود بتوفير الأقساط المبرمجة في المواعيد المحدّدة والّتي تقدر بـ 249 حافلة منها 152 حافلة مزدوجة حيث تم اقتناء 245 حافلة فقط من جملة 494 حافلة مبرمجة وتأجيل اقتناء بقيّة الحافلات لعدم توفّر الاعتمادات اللّازمة”.

 

منذ مارس 2023 تم تعيين السيد عبد الرؤوف الصالح متصرف عام بمهام رئيس مدير عام شركة النقل بتونس.

في رده على سؤالنا المتعلق بالمشاريع المستقبلية لشركة نقل تونس، أشار الرئيس المدير العام عبد الرؤوف بن الصالح إلى مشروع اقتناء 18 عربة لتجديد أسطول خط “TGM” والذي وقع إمضاء عقود تمويله مع البنك الأوروبي للاستثمار والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتّنمية بقيمة 90 مليون يورو، على أن يتم الإعلان عن طلب العروض الأولي الخاص باقتناء العربات خلال الثلث الثالث من السنة الجارية، إلى جانب مشروع تأهيل 11 عربة من نوع سيتاديس على ميزانية الدّولة، وتأهيل عربات من نوع سيمانس.

كما أشار الرئيس المدير العام في رده إلى مشروع لاقتناء 54 عربة مترو جديدة، الذي لا يزال في مرحلة انجاز دراسات ما قبل الجدوى والبحث عن التّمويلات الضّرورية.

وعلى ضوء هذه الوعود، يبقى التساؤل على لسان المواطنين هل بالفعل سيتم تنفيذ هذه المشاريع، هل ستكون مجرد وعود كغيرها حبرا على ورق؟ كل كذلك على أمل الحصول على نقل عمومي يحفظ كرامتهم ويقللمن معاناتهم في الحصول على واحد من أبسطهم حقوقهم، وهو الحق في التنقل.

احمد الكحلاني 

 

عن Radio RM FM

شاهد أيضاً

المنستير: إحداث أول شركة أهلية محلية لتنمية الصناعات التقليدية بهذه المعتمدية

أُعلن مساء أمس الجمعة خلال يوم إعلامي نظمته معتمدية الساحلين حول الشركة الأهلية المحلية لتنمية …